خلال الأسابيع القليلة الماضية، عانت بريطانيا من قفزة شاهقة غير مفهومة في أعداد الحالات اليومية، بدأت الدولة موجة كورونا الثانية في أغسطس/آب وبلغت ذروتها في بداية نوفمبر/تشرين الثاني، ومع الانخفاض التدريجي للحالات هدأت الأمور قليلا، لكنها، بشكل مفاجئ، عاودت الصعود في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني لتبلغ، بينما تُكتب هذه الكلمات، ذروة جديدة تخطّت حاجز 30 ألف حالة يوميا.
لكن هذه المرة لاحظ متخصصو علم الأوبئة أن تلك القفزة الأخيرة كان سببها مناطق(1) محددة في جنوب شرق البلاد، حيث إن المعتاد هو أن تُسجِّل البلاد 100 حالة أسبوعيا لكل مئة ألف نسمة، لكن تلك المناطق تحديدا ارتفعت معدلات الإصابة فيها إلى أربعة أضعاف، أثار ذلك انتباههم لاحتمالية أن يكون ذلك مرتبطا بتغيُّر طارئ في طبيعة الفيروس نفسه، ومع إجراء فحص لتسلسل الحمض النووي الخاص بمجموعة عشوائية من عينات كورونا المستجد، وجدوا أنهم أمام شكل جديد من الفيروس، به 17 طفرة لم نسمع بها من قبل!
يشبه الأمر أن يُطلب إليك أن تقوم بنقل رسالة مكوّنة من عدة آلاف من الحروف الإنجليزية من إحدى الكرّاسات إلى الحاسوب، عادة ما يحدث أن تنقل حرفا أو أكثر بشكل خاطئ، هذا هو ما يحدث في حالة كورونا المستجد، فهو يتركّب من غلاف بروتيني يُحيط جزءا من الحمض النووي الذي يمتلك صفة أساسية، وهي قدرته على نسخ نفسه بشكل متكرر، لكنه لا يستطيع فعل ذلك بمفرده، يجب أولا أن يدخل إلى خلية حية، ثم يُجبر آلياتها على تصنيع حمضه النووي.
لكن في أثناء عملية نسخ نحو 30 ألف حرف خاص بالفيروس، لكنها هذه المرة ليست حروفا بالمعنى المفهوم، بل وحدات كيميائية تتابع على شريط الحمض النووي الفيروسي كما تتابع المشاهد على شريط فيلم سينمائي، يحدث بشكل طبيعي(2) أن يُحذَف أحد الحروف، أو يتغير إلى حرف آخر، أو يُضاف حرف جديد إلى التتابع، تلك هي الطفرة، وعادة ما تكون حميدة، لا تؤثر في شيء، أو قد تتسبّب في إتلاف الفيروس تماما.
في بعض الحالات النادرة قد تكون تلك الطفرة مفيدة للفيروس، فتُحسِّن فرصه في البقاء، فينتشر بشكل أكبر مقارنة بأقرانه. في الواقع، إن الطفرات هي سبب انتقال الفيروسات مثل كورونا المستجد من عالم الحيوان إلى عالم البشر، حيث تدخل آلاف الفيروسات أجسامنا طوال الوقت، لكنها تمر بسلام لأنها لا تتمكّن من التعرُّف على خلايا أجسامنا، لكن قد تحدث إحدى الطفرات فتجعل من الممكن للفيروس أن يتعرف على الخلايا البشرية ويدخل إليها لينسخ نفسه، هنا تبدأ الأوبئة والجوائح. الشيء نفسه يحدث في أثناء انتشار الفيروس بين البشر، فقد يتغيّر عبر الطفرات ليتحسَّن انتشاره (أو العكس).
خلال الأسابيع القليلة الماضية، عانت بريطانيا من قفزة شاهقة غير مفهومة في أعداد الحالات اليومية، بدأت الدولة موجة كورونا الثانية في أغسطس/آب وبلغت ذروتها في بداية نوفمبر/تشرين الثاني، ومع الانخفاض التدريجي للحالات هدأت الأمور قليلا، لكنها، بشكل مفاجئ، عاودت الصعود في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني لتبلغ، بينما تُكتب هذه الكلمات، ذروة جديدة تخطّت حاجز 30 ألف حالة يوميا.
لكن هذه المرة لاحظ متخصصو علم الأوبئة أن تلك القفزة الأخيرة كان سببها مناطق(1) محددة في جنوب شرق البلاد، حيث إن المعتاد هو أن تُسجِّل البلاد 100 حالة أسبوعيا لكل مئة ألف نسمة، لكن تلك المناطق تحديدا ارتفعت معدلات الإصابة فيها إلى أربعة أضعاف، أثار ذلك انتباههم لاحتمالية أن يكون ذلك مرتبطا بتغيُّر طارئ في طبيعة الفيروس نفسه، ومع إجراء فحص لتسلسل الحمض النووي الخاص بمجموعة عشوائية من عينات كورونا المستجد، وجدوا أنهم أمام شكل جديد من الفيروس، به 17 طفرة لم نسمع بها من قبل!
يشبه الأمر أن يُطلب إليك أن تقوم بنقل رسالة مكوّنة من عدة آلاف من الحروف الإنجليزية من إحدى الكرّاسات إلى الحاسوب، عادة ما يحدث أن تنقل حرفا أو أكثر بشكل خاطئ، هذا هو ما يحدث في حالة كورونا المستجد، فهو يتركّب من غلاف بروتيني يُحيط جزءا من الحمض النووي الذي يمتلك صفة أساسية، وهي قدرته على نسخ نفسه بشكل متكرر، لكنه لا يستطيع فعل ذلك بمفرده، يجب أولا أن يدخل إلى خلية حية، ثم يُجبر آلياتها على تصنيع حمضه النووي.
لكن في أثناء عملية نسخ نحو 30 ألف حرف خاص بالفيروس، لكنها هذه المرة ليست حروفا بالمعنى المفهوم، بل وحدات كيميائية تتابع على شريط الحمض النووي الفيروسي كما تتابع المشاهد على شريط فيلم سينمائي، يحدث بشكل طبيعي(2) أن يُحذَف أحد الحروف، أو يتغير إلى حرف آخر، أو يُضاف حرف جديد إلى التتابع، تلك هي الطفرة، وعادة ما تكون حميدة، لا تؤثر في شيء، أو قد تتسبّب في إتلاف الفيروس تماما.
في بعض الحالات النادرة قد تكون تلك الطفرة مفيدة للفيروس، فتُحسِّن فرصه في البقاء، فينتشر بشكل أكبر مقارنة بأقرانه. في الواقع، إن الطفرات هي سبب انتقال الفيروسات مثل كورونا المستجد من عالم الحيوان إلى عالم البشر، حيث تدخل آلاف الفيروسات أجسامنا طوال الوقت، لكنها تمر بسلام لأنها لا تتمكّن من التعرُّف على خلايا أجسامنا، لكن قد تحدث إحدى الطفرات فتجعل من الممكن للفيروس أن يتعرف على الخلايا البشرية ويدخل إليها لينسخ نفسه، هنا تبدأ الأوبئة والجوائح. الشيء نفسه يحدث في أثناء انتشار الفيروس بين البشر، فقد يتغيّر عبر الطفرات ليتحسَّن انتشاره (أو العكس).
السلالة الجديدة من الفيروس سُمِّيت “VUI – 202012/01” أو “B.1.1.7″، لا نعرف الكثير عنها، لكن نعرف أنها ليست “سلالة” (Strain) بالمعنى المفهوم، كلمة سلالة هنا ربما تُستخدم إعلاميا لتوضيح فكرة أن هناك تغيُّرا ملحوظا في الفيروس، أما ما حدث فهو أقرب ما يكون لـ “تفرُّع” (3) (lineages) أو تنوُّع (Variant) جديد للفيروس، هناك اختلافات تقنية بين التعريفات الثلاثة، لكن الفارق في النهاية أن “سلالة” تُشير إلى تغيُّر جوهري في الفيروس.
بالطبع هناك ملاحظة أساسية وهي أن عدد طفرات هذا التنوُّع الجديد للفيروس أكبر من المُتوقَّع بفارق كبير، 17 طفرة، حيث عادة ما تتراكم الطفرات في الفيروس بمعدلات أقل من ذلك مع الزمن. وهذا بالأساس هو ما أقلق العلماء، لأن عدد طفرات كبيرا يعني أن خصائص الفيروس يمكن أن تتغيّر بشكل كبير. أضف إلى ذلك أنه من بين تلك الطفرات، فإن (8) حدثت في البروزات البروتينية (Spike Protein) -وتسمى بروتين الحسكة- الموجودة على سطح كورونا المستجد، وظيفة هذه البروزات أن ترتبط مع أنواع محددة من المستقبلات على الخلايا البشرية بطريقة تشبه القفل والمفتاح، ثم تسحبه تلك المستقبلات إلى داخل الخلية وهناك يبدأ التكاثر.
يفترض الباحثون من المركز الأوروبي للسيطرة على الأمراض واتقائها أن السبب في حدوث هذه القفزة الجينية قد يكون حالة إصابة بقيت لفترة طويلة مع مريض واحد ذي قدرات مناعية أضعف من المتوسط، فامتلك الفيروس الفرصة للتحوُّر مرات عدة مؤثرة، أثناء تخطي العراقيل التي تضعها مناعة المريض والأدوية أمامه، طوال تلك المدة.
أحد الافتراضات أيضا، لكنه أقل احتمالا، أن يكون الفيروس قد انتقل من أحد الحيوانات إلى البشر، بعد أن أصاب إنسانٌ آخر هذا الحيوان بالفيروس في وقت سابق، وعادة ما تحمل تلك التحوُّرات التي تحدث أثناء انتقال الفيروس بين كائنين حيّين من نوعين مختلفين عددا أكبر من الطفرات، بسبب أن طبيعة التكيُّف في كلٍّ منهما مختلفة. وهناك احتمال ثالث أضعف يتعلّق بأن خط سير تطوُّر هذه السلالة فقط لم يكن مرصودا من قِبَل العلماء على مدى زمني طويل، بريطانيا هي واحدة من أكثر دول العالم تحليلا وبحثا عن التغيرات الجينية في الفيروس، 5-10% من حالات “كوفيد-19” هناك يتم عمل تسلسل حمض نووي لها.
حدوث الطفرات هو “الطبيعي” بالنسبة لفيروس، وليس العكس. في الواقع، لا يعرف الكثيرون أن هناك(4) نحو 12 ألف نوع/تنوُّع (Variant) من كورونا المستجد ظهر بسبب عشرات الآلاف من الطفرات حدثت له بعد أول حالة إصابة مُعلَنة في الصين ديسمبر/كانون الأول 2019، التي سنفترض أنها أول انتقال للفيروس من حيوان إلى إنسان. إلى الآن فإن كلًّا من تلك الأنواع يختلف عن الآخر في عدد طفرات لا يتعدّى 30 حرفا، لذلك يعتقد العلماء أنه لا توجد بعد “سلالات” من كورونا المستجد ولكنها سلالة واحدة كبيرة تضم تنوُّعات عدة.
من بين كل تلك التنوُّعات، كانت هناك حالتان أثارتا انتباه الباحثين والعامة حول العالم مؤخرا، الأولى كانت حينما أقدمت الحكومة في دولة الدنمارك على قتل(5) نحو 15 مليونا من حيوانات المنك في البلاد لأن فيروس كورونا المستجد انتقل إليه من البشر، ثم تحوَّر داخله إلى خمسة تنوُّعات جديدة، أحدها كان من المُحتمَل أن يكون قادرا على تحييد أثر اللقاح بشكل جزئي أو كلي، وكان بالفعل قد انتقل إلى نحو 400 مواطن دانماركي.
أما الحالة الثانية فسُمِّيت الطفرة “D614G”، ومع انتشارها في أوروبا اعتقد فريق العلماء أنها أكثر(6) قدرة على الانتشار بفارق عشرة أضعاف من الطبيعي، لكن تلك الفرضية الآن أقل احتمالا بعد دراسات إضافية، رغم ذلك سبَّبت تلك الطفرة بلبلة شديدة حول العالم، حيث تصوَّر الناس أن الانتشار مرتبط بالخطورة، بينما ذلك غير صحيح.
حيث يميل الباحثون لاعتقاد أن هذه التغيُّرات جعلت كورونا المستجد أكثر انتشارا بفارق 70% عن السلالات المعتادة للفيروس (أقل من الضعف)، ويُعتقد أن سبب ذلك هو أن التغيُّرات في بروتين الحَسَكة قد حسَّنت من قدرة الفيروس على التوافق مع المُستقبلات في الخلايا البشرية، من جانب آخر فإن هذه الطفرات قد تساعد الفيروس على أن يتخفّى بشكل أفضل من جهاز المناعة البشري.
على الجانب الآخر، هناك ميل إلى الإجابة بـ “لا” عن سؤال الخطورة، فقد بيّن فحص تعداد الإصابات في جنوب شرق إنجلترا أن الفيروس ينتقل بمعدلات أكبر، لكنه لم يرصد أي تصاعد محتمل في خطورة الفيروس، بمعنى أن عدد الحالات التي دخلت إلى المستشفيات، أو تلك التي دخلت إلى غرف العناية المركزة، أو أعداد الذين وافتهم المنية، كانت ضمن المعدلات الطبيعية.
كذلك هناك ميل للإجابة بـ “لا” عن سؤال اللقاح، فرغم أن اللقاحات بالأساس تعتمد على محاكاة بروتين الحسكة، فإنها تُنتج أجساما مضادة يمكن أن تتفاعل مع مناطق كثيرة في بروتين الحسكة، لذلك من غير المُحتمَل أن تتمكّن تلك التغيُّرات فقط من إيقاف أثر اللقاح، لكن رغم ذلك ما زلنا في حاجة إلى المزيد من الفحص للتأكد من الأثر الدقيق لتلك السلالة على فاعلية اللقاح.
يُعتقد أن أول ظهور لهذه الطفرات كان في سبتمبر/أيلول الماضي، وحينما أُجريت الفحوص جنوب شرق إنجلترا كان أكثر من 50% من بعض المدن يحتوي على السلالة الجديدة، يعني ذلك أنها بالفعل تتجوّل في البلاد، لكن الأهم من ذلك أن السلالة الجديدة رُصِدت بالفعل في عدّة دول(8) مثل هولندا والدنمارك وبلجيكا، بالتالي فإن أمر انتشار هذه “السلالة” أصبح محكوما بطبيعتها وليس بما نتخذه من إجراءات، إذا كانت بالفعل سريعة الانتشار فسوف تتفوّق على التنوُّعات الأخرى وتصبح السائدة في العالم كله.
لكن رغم ذلك، فإن إجراءات الغلق من المستوى الرابع المشدد، وإغلاق بعض الدول(9)، مثل أيرلندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا، لخطوط الطيران مع بريطانيا، سيُبطِّئ من انتشارها بين دول العالم، لحين دخول حملات التطعيم في مستوى يشمل عددا أكبر من الناس، قد يُعوِّض ذلك من فارق الانتشار إذا كانت السلالة بالفعل أكثر انتشارا.
دعنا في تلك النقطة نُوضِّح أن كل ما سبق من أحداث ونتائج لا يؤثر على خطط العلاج أو التلقيح حول العالم، في الواقع يعتقد العلماء أن طفرات سابقة غير مرصودة كانت سببا في إعطاء الفيروس قدرة أكبر على الانتشار، وهو ما ظهر في تصاعد أعداد الإصابات على مستوى العالم أكثر من مرة، لكن هذا غير مؤكد، يتطلّب الأمر الكثير من البحث لتأكيد تلك النتائج.
في كل الأحوال، نعرف أن كورونا المستجد سيستمر في التحوُّر، وستظهر منه -يوما ما- سلالات جديدة تتطلّب تغيير اللقاحات، وهذا أمر طبيعي، وهو مهمة ليست بالصعبة بالنسبة لشركات ومصانع اللقاحات، لكن من حسن حظنا نحن البشر أن هذا الفيروس يمتلك آليات تصحيح جزيئية تمنعه من التحوُّر بمعدلات كبيرة، بل إن معدلات تحوُّره تساوي تقريبا نصف معدلات الإنفلونزا الموسمية، الأمر الذي يعطي بعض الاطمئنان بالنسبة لعمليات التلقيح والعلاج.
(الجزيرة. نت)